لقد هز العسكريون الأمريكان موسكو باعترافاتهم التي أذاعتها وسائل الإعلام بأن الطائرات المصنوعة في روسيا أفضل بكثير من الطائرات الأمريكية. فما سبب يا ترى لهذه الاعترافات التي أثلجت قلب موسكو؟ ترجع بداية كل هذه القصة الى الحديث مع الجنرال الأمريكي هال همبورغ الذي نشرته الصحيفة "يو. أس. أي. توداي" (USA Today) حيث تطرق الى النجاحات الباهرة التي أحرزتها القوات الجوية الهندية في المعارك الجوية التدريبية ضد الطائرات الأمريكية "F-15C/D "Eagle"". ودخل الهنود "القتال" بالطائرات المقاتلة المتعددة المهمات من طراز "سوخوي أم. كا. أي" الروسية الصنع وفازوا في حوالي 90 بالمائة من مجموع الاشتباكات. وتنقل الصحيفة عن الجنرال الذي يرأس قيادة المعارك الجوية (Air Combat Command) للقوات الجوية الأمريكي قوله "إننا لسنا متقدمين على سائر العالم كما نحب أن نتصور. وفي تحقيق سيطرتنا في الجو نعتمد من حيث الأساس على طائرة "أف - 15" ولذلك انتصارات الطيارين الهنود الذين قادوا الطائرات الروسية باتت بمثابة "حمام بارد" بالنسبة للعديد من كبار ضباط سلاح الجو". ثم تحدثت عن "الفوز الروسي" نشرة تصدرها القوات الجوية الأمريكية "Inside Air Force" وأوردت حقائق أصعقت الأمريكان أكثر من السابق. وأفشت النشرة أن "أف - 15" الأمريكية اشتبكت لا مع "سوخوي - 30 أم. كا. أي" وحدها بل ومع "ميغ-27" وميغ-29" وحتى "ميغ - 21" القديمة والتي قاتلت بصورة ممتازة بحيث فازت لا على "النسور" الأمريكية فقط بل وعلى "ميراج-2000" الفرنسية. ووصف الموقع الأمريكي في الإنترنت "Washington ProFile" نجاح الطائرات الروسية كـ"مفاجئة تامة" بالنسبة للطيارين الأمريكان. أما الخبراء العسكريون ومصممو الطائرات الروس فلا يرون أي غرابة في انتصارات الطائرات المقاتلة الوطنية على "أف-15" الأمريكية. فقد حدث ميخائيل سيمونوف كبير المصممين لمؤسسة "سوخوي" لتصميم الطائرات مرارا ولمعلق نوفوستي العسكري أيضا أن المقاتلة "سوخوي - 27" (Flanker - حسب تصنيف الناتو) التي تعتبر "سوخوي - 30 أم. كا. أي" الهندية نموذجا مطورا لها صنعت في ثمانينات القرن الماضي خصيصا لمكافحة "أف - 15" (Eagle). ولذا فكانت مواصفاتها التكتيكية والفنية متفوقة أصلا على مواصفات خصمها المحتمل. ولا غرابة للخبراء في واقع أن أداء المقاتلات من هذا الصنف يكون في مستوى مهماتها. ولكن فاجأهم واقع أخر هو اعتراف كبار العسكريين الأمريكان جهارا بهذه الحقيقة. ومما أدهشهم أكثر من ذلك أن هذا الاعتراف تأخر بأربعة شهور. فالمعارك الجوية بين "سوخوي - 30 أم. كا. أي" الهندية و"أف-15" الأمريكية جرت في شباط/ فبراير الماضي في قاعدة القوات الجوية الأمريكية في ألمندورف (ولاية آلاسكا). ولكنهم تجنبوا آنذاك لسبب من الأسباب الخوض في الحديث عن فوز الطائرات الروسية التي فازت في ثلاث معارك من أصل الأربع بالإضافة الى العديد من الحقائق المشابهة. وفازت المقاتلات الروسية في المعارك التدريبية ضد الأمريكان لأول مرة في مطلع التسعينات عندما بدأت طائرات "سوخوي" و"ميغ" الوطنية تشترك في المعارض الجوية الدولية. وحينئذ وصلت مجموعة من مقاتلات "سوخوي - 27" بقيادة الجنرال الكسندر خارتشيفسكي الذي يرأس مركز ليبيتسك لإعادة تأهيل الطيارين العسكريين والذي يعرفه اليوم العالم بأسره (هو كان وراء مقود الطائرة القتالية - التدريبية التي أقلت الرئيس فلاديمير بوتين الى الشيشان) الى كندا من أجل استعراض قدرات الطائرات المقاتلة الروسية. ولم تحمل الطائرات الروسية والأمريكية على متونها قذائف وصواريخ حية بل تزودت بشريط سينمائي معبأ في "المدافع الفوتوغرافية". ويصعب على المرء وصف خيبة الأمريكان عندما تم تحميض الفيلم. إذ لم تترك "سوخوي - 27" أي "إثر" عليه في حين تم تصوير "أف - 15" من كل الجهات - من الخلف ومن الجانب ومن الأعلى - أي الجهات الأكثر عرضة للإصابة بالصواريخ والقذائف. وليس مرد نجاح المقاتلات الروسية بالطبع الى سرعة آلات التصوير المركبة عليها وإنما الى قدرتها العالية على المناورة وقوة دفع محركاتها. وتعرف عالم الطيران كله اليوم على القدرات القتالية المنقطعة النظير التي تتحلى بها طائراتنا بحيث تعجز كل الطائرات في العالم الأخرى باستثناء طائرات "سوخوي" و"ميغ" الروسية عن تحقيق حركة "ناشر بوغاتشوف" وبعض حركات الألعاب البهلوانية الجوية. وفي حين تنعطف "أف - 15" وأفراد عائلتها من نوعي "أف - 16" و"أف - 18" نحو الهدف في قوس عريض تلتف الطائرات الروسية حول ذيلها وبزيادة الدفع قليلا تقترب من "النسر" بسهولة من الخلف أو من الجانب أو من الأعلى. ومن هذا الموقع لا يصعب عليها أن توجه ضربة قاضية الى الخصم. وبعد كندا جرى في أواسط التسعينات تنظيم معارك جوية مشابهة لطائرات "ميغ - 29" في جنوب إفريقيا حيث واجهتها لا "F-15C/D "Eagle"" ولكن "مراج - 2000" الفرنسية. غير أن النتيجة لم تتغير. وبقول كبير المصممين مدير برنامج "ميغ - 29" أركادي سلوبودسكوي: "إذا اقتربت طائرتنا من طائرة العدو على مسافة طلقة مباشرة فمعناه "الموت" الأكيد للأخيرة. ويكفي لإسقاطها إطلاق 5 أو 6 دفعات من مدفع رشاش. يعرف الأمريكان بصورة جيدة عن تلك المواصفات القتالية لطائراتنا. وهم حتى اشتروا من مولدافيا بعد نيلها الاستقلال مثل بقية الجمهوريات السوفيتية سربا من "ميغ - 29 كا" التي كانت ترابط في مطار عسكري في ضواحي كيشينيف وصلحوها بمساعدة الخبراء الألمان الذين "ورثوا" عددا من "ميغ - 29" من جيش ألمانيا الديمقراطية السابقة، ويستخدمونها اليوم بشكل واسع من أجل تدريب طياريهم على مقاومة وقهر "المقاتلات الروسية" التي يبلغ عددها في مختلف بلدان العالم أكثر من 7 آلاف طائرة. ففي الهند وحدها توجد أكثر من 500 طائرة من هذا النوع، كما تفيد مجلة "The Military Balance" البريطانية. ولا غرابة في أمر أن الطيارين الهنود يتغلبون بسهولة نسبية على الأمريكان على الرغم من كل تدريبهم المكثف. ومما يفسر ذلك الآليات القتالية الفريدة المقترنة بمهارة قيادة الطائرة. ومن جهة أخرى وكما يشير خبراء في اللقاءات مع الصحفيين لم يواجه الطيارون الأمريكان منذ فترة طويلة عدوا قويا في المعارك الجوية الحقيقية. إذ لا يجوز اعتبار معارك نهاية التسعينات في سماء البلقان اختبارا جديا للأمريكان الذين حققوا هيمنتهم في الجو بواسطة الكم وليس النوع. وهذا صحيح أيضا بالنسبة للحملتين العراقيتين حيث لم يلق الأمريكان أي مقاومة في الجو. فأين يمكن اكتساب الخبرة القتالية إلا في المعارك التدريبية؟ بيد أن نفسية العسكريين المتحجرة لا تسمح لهم بمواجهة الطيارين الروس في المعركة التدريبية: ما إذا خسر الطيارون الأمريكان من جديد فكيف يمكن بعدها إقناع الطيار بأنه قادر على قهر "العدو المحتل السابق" بل ملزم بالتغلب عليه. أما الهنود فليس ثمة مثل هذه العقدة إزاءهم. فالخسارة أمامهم لا تعني شيئا سوى سوء تدريب. ولكن ما سبب اعتراف الأمريكان بإخفاقاتهم على مسمع العالم بأسره ؟ مع العلم بأن هذا السلوك يخالف العادة المتبعة في جيشهم وفي جيشنا أيضا. يسهل تفسير مثل هذه الصراحة من جانب الأمريكان إذا تذكرنا سبب عودتهم في حزيران/ يونيو الى أحداث شباط/ فبراير. هو أن الكونغرس الأمريكي يباشر في هذه الفترة من السنة مداولاته حول اعتمادات الميزانية للأغراض الدفاعية للعام المالي الجديد.